بين رشوة الموظفين واعتداء المواطنين… مرصد الإجرام يكشف مفارقات الجريمة ضد النظام العام بالمغرب

الرباط: ريم بنكرة

على مدى عقدين من الزمن، يرسم تقرير المرصد الوطني للإجرام صورة مركبة للجرائم الماسة بالنظام العام في المغرب، تكشف عن مفارقات لافتة بين ما يصدر عن موظفين يفترض فيهم حماية القانون، وما يرتكبه مواطنون في مواجهة رموزه وممثليه.

فمن خلال تقريره الجديد المعنون بـ “معالم إحصائية للجريمة بالمغرب على مدى 20 سنة”، يتضح أن الجنايات والجنح الصادرة عن الموظفين شهدت تصاعدًا مقلقًا، بينما تبرز الجرائم الصادرة عن الأفراد في منحنى شبه ثابت، مع اختلاف جوهري في طبيعتها ودوافعها.

فبين سنتي 2002 و2022، قفزت القضايا المسجلة ضد موظفين عموميين من نحو 2300 قضية إلى أزيد من 20 ألفًا، ليبلغ الإجمالي خلال عقدين حوالي 197.476 قضية. وهي أرقام تُبرز، بحسب المراقبين، اتساع رقعة الفساد الإداري وتغلغله في مفاصل المرفق العمومي، رغم الجهود المؤسساتية المبذولة لمحاصرته.

الأرقام الأكثر دلالة في التقرير تشير إلى أن الجرائم المرتبطة بالرشوة واستغلال النفوذ تهيمن بشكل كاسح على هذا الصنف بنسبة تقارب 99 في المائة، أي ما مجموعه 195.037 قضية.

أما جرائم الاختلاس والغدر، التي غالبًا ما ترتبط بتبديد المال العام، فتبقى هامشية مقارنة بسابقتها، إذ لم تتجاوز 2439 قضية طيلة العقدين الماضيين.
هذه الهيمنة الرقمية تعني، من منظور تحليلي، أن الفساد لم يعد استثناءً فرديًا، بل ظاهرة هيكلية تتغذى من هشاشة منظومات المراقبة وضعف آليات الردع، رغم تشديد العقوبات ورفع منسوب الخطاب الرسمي حول الشفافية والحكامة.

في المقابل، يقدم التقرير وجهًا آخر من الجريمة يمسّ الأفراد العاديين، إذ سجلت المحاكم المغربية نحو 100.949 قضية تتعلق بجرائم الأفراد ضد النظام العام خلال الفترة نفسها، وتوبع على إثرها 119.739 شخصًا.
لكن المثير هنا هو أن ما يقارب 99,2 في المائة من هذه القضايا تتعلق بـ إهانة أو الاعتداء على موظفين عموميين، أي جرائم تعكس توتر العلاقة بين المواطن والإدارة، أو بين السلطة وممارسها الميداني والمواطن الذي يشعر أحيانًا بالظلم أو الاستفزاز.

وبالمقارنة بين الفئتين، نلاحظ أن الموظف الذي يُفترض فيه أن يكون ممثلًا للنظام العام ودرعًا له، يتحول أحيانًا إلى مصدر تهديد عبر ممارسات الرشوة أو استغلال النفوذ.

بينما المواطن، في الاتجاه المعاكس، يُجرّ إلى المحاكم بتهم الاعتداء أو الإهانة عندما يشعر بأن هذا النظام نفسه لا ينصفه. إنها علاقة معقدة تُترجم على أرض الواقع في شكل “حلقة توتر متبادلة” بين الإدارة والمواطن، يكون فيها القانون هو الحكم، لكن ليس دائمًا الضامن للعدالة المتوازنة.

أما الجرائم النادرة في هذا الباب، مثل إهانة علم المملكة ورموزها، فظلت في حدود ضيقة جدًا (784 قضية فقط خلال 20 سنة، بنسبة 0,8 في المائة)، ما يعكس أن التحدي الأكبر لا يتعلق بالولاء الرمزي للدولة، بل بالثقة اليومية في مؤسساتها وعدالتها.

من زاوية تحليلية، يُظهر هذا التباين أن المغرب يواجه ازدواجية في بنية الجريمة المرتبطة بالنظام العام:

من جهة، جريمة “الفساد من الداخل” تمارسها فئة تتمتع بامتياز السلطة والنفوذ، وتؤثر في صورة الدولة ومصداقية المؤسسات.

ومن جهة أخرى، جريمة “التمرد من الخارج” تصدر عن مواطنين يشعرون بالتهميش أو انعدام الثقة، فتنفجر في شكل اعتداء أو احتجاج غير مشروع.

هكذا يبدو أن تحدي المستقبل لا يكمن فقط في تجريم الأفعال، بل في إعادة ترميم الثقة بين الإدارة والمجتمع، وبناء علاقة متوازنة قائمة على الشفافية والمحاسبة المتبادلة، لأن الجريمة في نهاية المطاف ليست مجرد رقم في تقرير، بل انعكاس لخلل أعمق في منظومة القيم والعلاقات بين الدولة ومواطنيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى