ملف استيراد المواشي يُشعل البرلمان: هل تحاول الأغلبية طمس الحقائق؟
الرباط: إدريس بنمسعود
افتتحت الدورة الربيعية للبرلمان على وقع خلاف محتدم بين الأغلبية والمعارضة حول ملف دعم استيراد المواشي، في ظل ما يعتبره مراقبون “تخبطاً تشريعياً” و”تضارباً في النوايا الرقابية” داخل المؤسسة البرلمانية.
ففي الوقت الذي بادرت المعارضة إلى تفعيل آلية لجنة تقصي الحقائق، وهي أقوى الأدوات الرقابية التي يخولها الدستور لمجلس النواب، سارعت الأغلبية إلى اقتراح “مهمة استطلاعية” بديلة، اعتبرتها كافية ومناسبة، بدعوى أن الموضوع لا يستدعي تحقيقاً معمقاً. هذا الخيار وُصف من طرف المعارضة بأنه محاولة مكشوفة لـ”تبييض وجه الحكومة” و”احتواء النقاش العمومي المقلق”.
تصريحات رئيس فريق التجمع الوطني للأحرار، محمد شوكي، بدت دفاعية أكثر من كونها مقنعة، حين وصف دعوة المعارضة للجنة تقصي الحقائق بـ”التضليل”، متناسياً أن الرأي العام لا يزال يتساءل عن الكلفة الحقيقية للدعم، والجهات المستفيدة، ومدى الشفافية في التوزيع.
واللافت أن شوكي نفسه أقر بوجود لغط ومغالطات، ليبرر بذلك المهمة الاستطلاعية، متناقضاً مع تأكيده أن “الحكومة قدمت توضيحات كافية”.
من جهته، اعتبر عبد الصمد حيكر، عضو المجموعة النيابية للعدالة والتنمية، أن تحرك الأغلبية لا يعدو أن يكون “مناورة سياسية لنسف مبادرة المعارضة”، متهماً إياها بالسعي إلى تحييد أدوات الرقابة الجادة، والتستر على اختلالات محتملة قد ترقى إلى هدر المال العام.
ويبدو أن الانقسام داخل الأغلبية نفسها – بدءاً من تصريحات نزار بركة – قد زاد من إرباك المشهد، إذ بات من الواضح أن هناك محاولة للتوفيق بين الانصياع للرأي العام الغاضب وتفادي الحرج السياسي للحكومة، عبر الالتفاف على أدوات الرقابة القوية.
في نهاية المطاف، تبقى الأسئلة الجوهرية مطروحة: هل فعلاً نُفذت برامج دعم الاستيراد بشفافية وعدالة؟ ومن المستفيد الحقيقي؟ والأهم، هل يكفي تقرير استطلاعي غير ملزم لإقناع المغاربة، أم أن الأمر يحتاج إلى جرأة سياسية لكشف كل الحقائق؟
المشهد البرلماني اليوم لا يوحي بثقة، بل يكرّس صورة مؤسسة تُفضل الحسابات السياسية على مصلحة المواطن، وتغلب منطق التسويات على منطق المحاسبة.
غياب الثقة وشبهات التوظيف السياسي
ما يثير القلق أكثر هو أن هذا الجدل لا يدور حول السياسات الفلاحية أو سبل ضمان الأمن الغذائي للمغاربة، بل يتمركز حول آليات رقابة برلمانية يُفترض أن تكون محايدة ومستقلة. غير أن الوقائع تكشف عن توظيف واضح للأغلبية لهذه الآليات من أجل تحييد أي نقاش قد يضع الحكومة في موضع مساءلة حقيقية خصوصاً مع تفاقم الأوضاع الاجتماعية وارتفاع أسعار اللحوم بشكل غير مسبوق رغم كل الدعم المزعوم.
ويطرح كثيرون علامات استفهام حول أسباب تراجع الأغلبية عن تبني لجنة تقصي الحقائق، رغم أن حزب الاستقلال، أحد مكوناتها، كان أول من دق ناقوس الخطر من خلال تصريحات أمينه العام. فهل يتعلق الأمر بصراع أجنحة داخل الحكومة؟ أم بمحاولة لإطفاء نار داخلية قبل أن تتحول إلى أزمة سياسية أوسع؟
منطق الحماية أم منطق المحاسبة؟
الأدهى أن النقاش تحول من محتوى الدعم ونتائجه إلى الشكل الإجرائي الذي يجب اتباعه، في انحراف واضح عن الأولويات. فبدلاً من مساءلة الحكومة عن المبالغ التي صُرفت، والمعايير التي اعتمدت، والنتائج المحققة على الأرض، انصب الجهد على “تجميل المشهد” وتقليص الأضرار السياسية.
ويُخشى أن تتحول “المهمة الاستطلاعية” إلى أداة لامتصاص غضب الشارع، خاصة إذا كانت النتيجة المتوقعة هي تقرير داخلي بلا أثر قانوني ملزم، يُناقش في هدوء داخل لجنة برلمانية، وربما يُركن على رفوف النسيان، كما حدث مع تقارير سابقة.
في النهاية من يحاسب من؟
إذا كانت الرقابة البرلمانية قد تحوّلت إلى مجال للتجاذب السياسي بدل أن تكون ساحة لكشف الحقيقة، فإن الثقة في العمل النيابي ستكون هي الضحية الأكبر.
وفي غياب الشفافية الكاملة سيظل الرأي العام يتساءل: من يحاسب الحكومة فعلاً؟ وهل البرلمان يُمثل مصالح المواطنين أم يخضع لحسابات ظرفية وتحالفات حزبية؟
إن اللحظة السياسية الراهنة تتطلب جرأة في المكاشفة، لا التفافاً على الأدوات الدستورية، ومصارحة للمواطن قبل مهادنة الحلفاء. فالمحاسبة ليست ترفاً، بل هي شرط أساسي لاستمرار الثقة في المؤسسات.