“الأحزاب المغربية بين التفريغ السياسي والتشظي التنظيمي: أي مستقبل في أفق الاستحقاقات المقبلة؟”
الرباط: إستثمار
لم يعد من الممكن الحديث عن الأحزاب السياسية في المغرب دون الإقرار بحقيقة مؤلمة: تفريغها الممنهج من مضمونها السياسي والاجتماعي، وتحويلها إلى كيانات صورية تفتقر إلى العمق التأطيري والفعالية المجتمعية. لم تعد الأحزاب، كما نصّ الدستور، وسيلة للتأطير والتكوين السياسي للمواطنين، بل تحولت إلى أدوات انتخابية موسمية، لا تعكس طموحات المجتمع ولا تساهم في صقل وعيه أو تعبئته.
أولًا، التفريغ المؤسساتي الممنهج:
ساهمت الدولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تدجين الأحزاب وإفراغها من استقلاليتها الفكرية والتنظيمية، من خلال آليات متعددة، أبرزها التحكم في الخريطة الحزبية عبر تشجيع “البلقنة”، ودعم أحزاب إدارية لا تملك هوية أيديولوجية واضحة، بالإضافة إلى تكبيل الأحزاب التاريخية ببيروقراطية قاتلة ونزاعات داخلية تُدار أحيانًا من خارج أسوارها. النتيجة كانت ضعف الثقة بين المواطن والحزب، وتآكل الشرعية التمثيلية لهذه الهيئات.
ثانيًا، غياب المرجعيات الواضحة:
يعيش المشهد الحزبي المغربي حالة من التيه الإيديولوجي. فلم نعد نميز بين أحزاب اليسار واليمين، ولا نكاد نجد فوارق برامجية بين الأحزاب، وهو ما يجعل الخطاب السياسي باهتًا، متشابهًا، ولا يُقنع الناخب ولا يثير النقاش العام. هذا الغياب لمرجعيات واضحة ومتجانسة أفقد المشهد السياسي القدرة على إنتاج تكتلات حقيقية وذات مشروع مجتمعي متكامل.
ثالثًا، السؤال المحوري: ما مصير الأحزاب في أفق الاستحقاقات المقبلة؟
مع تزايد العزوف السياسي وابتعاد الشباب عن الممارسة الحزبية، يطرح السؤال نفسه بإلحاح: من سيتصدر المشهد السياسي في الانتخابات المقبلة؟ في ظل التشرذم الحزبي وغياب الزعامة السياسية الكاريزمية، يبدو أن لا حزب قادر على تعبئة حقيقية أو تقديم مشروع إصلاحي شامل. السيناريو الأقرب هو إعادة إنتاج نفس التوليفة الهشة، عبر تحالفات ظرفية لا تتأسس على منطق الانسجام الفكري أو البرامج، بل على منطق اقتسام المواقع.
رابعًا، من البديل؟
إن استمرار هذا الوضع ينذر بإفراغ السياسة من معناها، وفتح الباب أمام فاعلين غير مؤطرين، أو حركات احتجاجية لا تجد لنفسها تمثيلية داخل المؤسسات. وقد يشجع هذا على بروز خطاب شعبوي أو انغلاق مجتمعي قد يُهدد الاستقرار السياسي على المدى البعيد.
الأحزاب السياسية في المغرب اليوم تقف على مفترق طرق. فإما أن تُعيد بناء ذاتها على أساس مشروع سياسي واضح وفاعل، يعيد لها دورها التأطيري الحقيقي، أو تستمر في الانحدار نحو الهامش، تاركة فراغًا ستملؤه قوى لا تؤمن بالديمقراطية التمثيلية.
إن مستقبل الاستحقاقات المقبلة لن يُحسم فقط في صناديق الاقتراع، بل في قدرة الأحزاب على استعادة ثقة المواطن وإعادة تعريف السياسة كمجال للفعل والتغيير، لا كمجرد وسيلة للوصول إلى المناصب.
في سياق أزمة الثقة المتفاقمة بين المواطن والمؤسسات تزداد حدة التساؤلات حول مستقبل الحزب الذي يقود الحكومة الحالية، حزب التجمع الوطني للأحرار، خاصة في ظل تواتر الفضائح التي طالت رئيسه ورئيس الحكومة، عزيز أخنوش، والتي لم تكن مجرد زلات تدبيرية عابرة، بل مؤشرات عميقة على أزمة في الحكامة والشفافية وربما في الرؤية السياسية ذاتها.
أولًا، فضيحة المحروقات: ربح فوق المصلحة العامة
تعود جذور الأزمة إلى مرحلة ما قبل الحكومة الحالية، عندما تكشفت تفاصيل الأرباح الفاحشة التي جنتها شركات توزيع المحروقات، وعلى رأسها شركة أفريقيا غاز، التي يملكها أخنوش، بعد تحرير الأسعار دون وضع آلية لحماية المستهلك. هذه الفضيحة ضربت مصداقية رجل الأعمال السياسي في الصميم، وطرحت سؤالًا أخلاقيًا وجوهريًا حول تضارب المصالح واستغلال الموقع السياسي لخدمة المصالح الخاصة.
ثانيًا، صفقة التطهير السائل بالدار البيضاء: غياب الشفافية أم سوء تدبير؟
في قلب العاصمة الاقتصادية، تفجرت أزمة صفقة التطهير السائل، التي أثارت الكثير من الجدل بسبب الشبهات التي أحاطت بأسلوب تدبيرها والشركة النائلة للصفقة. هذه القضية كشفت عن ضعف الحكامة المحلية، وطرحت من جديد موضوع ربط المسؤولية بالمحاسبة، خصوصًا في مشاريع تمس الحياة اليومية للمواطنين.
ثالثًا، صفقة استيراد المواشي: “الفراقشية” في قلب القرار الحكومي
الأكثر إثارة للجدل كانت صفقة استيراد الأغنام والمواشي من دول مثل البرازيل، والتي تحوّلت إلى قضية رأي عام بسبب ما أثير حولها من شبهات فساد، واتهامات بغياب معايير الإستفادة، فضلًا عن المستفيدين المجهولين الذين نُعتوا بـ”الفراقشية”. القضية كشفت عن غياب الشفافية في تدبير الملفات الحيوية، وعمّقت فجوة الثقة بين المواطن والحكومة، خصوصًا في ظل السياق الاجتماعي الحساس وارتفاع أسعار اللحوم.
أي مستقبل ينتظر حزب الأحرار؟
في ضوء هذه الفضائح المتكررة، يجد حزب التجمع الوطني للأحرار نفسه أمام تحدي البقاء السياسي. فالشعارات التي رفعها في حملته الانتخابية، كـ”فرصة”، و”أولوية التعليم والصحة” وتحقيق الدولة الإجتماعية، تآكلت أمام فشل حكومي واضح في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفي إدارة الشأن العام بكفاءة ونزاهة.
المستقبل السياسي للحزب بات مرهونًا بعدة سيناريوهات:
1. استمرار التآكل الشعبي، ما قد يؤدي إلى فقدان الثقة بشكل شبه تام، خصوصًا في صفوف الطبقة الوسطى والشباب.
2. تصويت عقابي محتمل في الاستحقاقات المقبلة، يدفع بالحزب إلى التراجع بشكل كبير أمام أحزاب منافسة، إن هي نجحت في إعادة ترميم خطابها وتقديم بديل واقعي ومقنع.
3. إعادة خلط الأوراق داخل الحزب نفسه، قد تشمل تغييرات في القيادة أو مراجعة للخط السياسي في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
إن الحكومة التي تُفقد الثقة لا يمكن أن تُراكم الإنجازات، والحزب الذي يُنظر إليه كواجهة لمصالح اقتصادية ضيقة لا يمكن أن يحظى بشرعية شعبية حقيقية.
وعلى حزب الأحرار أن يختار بين مراجعة جذرية تؤسس لمرحلة جديدة من المصارحة والتغيير، أو الانزلاق نحو التآكل التدريجي والانكماش السياسي في أفق الاستحقاقات المقبلة.
المشهد مفتوح، لكن الناخب المغربي بدأ يعي أكثر من أي وقت مضى أن الصناديق لا تكفي لصنع الشرعية… بل يجب أن تُبنى بالثقة والمصداقية والمحاسبة.