Adds
اقتصادقضايا وحوادث

60 ألف قضية ترفع سنويًا ضد الدولة المغربية: هل أصبحت “دولة الضرائب” عاجزة عن حماية نفسها؟

الرباط: إستثمار

في بلد يُفترض أن مؤسساته العمومية تسهر على حماية الحقوق وتكريس العدالة، يُسجّل واقعٌ صادم: أكثر من 60 ألف قضية تُرفع سنويًا ضد الدولة المغربية أمام المحاكم الإدارية. هذا الرقم الذي كشفت عنه وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح العلوي، ليس مجرّد معطى تقني جاف، بل هو مرآة تعكس عمق الأزمة التي تعيشها الإدارة المالية المغربية في علاقتها بمواطنيها ومتعاملِيها.

فأن تُحاصَر الدولة بهذا الكم الهائل من القضايا القضائية، يعني ببساطة أن هناك خللاً بنيويًا لا يُمكن تغليفه بخطابات الإصلاح أو التحديث.

يتعلق الأمر بفقدان متزايد للثقة، وبتحول العلاقة بين المواطن والدولة إلى علاقة قائمة على الشك والندية، وحتى الصدام. الأدهى من ذلك أن هذه القضايا لا تمثل سوى ثلث المنازعات التي تتورط فيها الدولة، حسب الأرقام الرسمية ذاتها، ما يعني أن حجم النزاع القضائي أكبر وأعمق مما يُعلَن عنه.

من دولة الرعاية إلى “دولة الضرائب”

في هذا السياق، يحق لنا أن نطرح سؤالًا حارقًا: هل تحوّلت الدولة المغربية إلى دولة الضرائب فقط؟

ففي الوقت الذي يُطالب فيه المواطنون والمقاولات بالامتثال الضريبي وتسديد مستحقاتهم، وفي ظل خطاب رسمي يروج لمناخ الأعمال وتحفيز الاستثمار، نجد أن الإدارة العمومية نفسها غير قادرة على الالتزام بعقودها وتعاقداتها.

واللافت اننا نجد في غالب الأحيان أن الكثير من النزاعات القضائية تنبع من إجراءات ضريبية تعسفية أو تأويلات إدارية ضبابية تُفرَض على المواطنين دون مراعاة للعدالة الجبائية أو الأمن القانوني.

إن إدارة الضرائب في المغرب لم تعد تكتفي بتحصيل المستحقات الضريبية وفق ما ينص عليه القانون، بل تحوّلت في نظر العديد من المقاولين والمواطنين إلى جهاز زجري يمارس سلطات واسعة بدون رقابة فعلية.

فحالات الحجز على الأرصدة البنكية للمقاولات وحتى للمواطنين البسطاء أصبحت مشهداً متكرراً، يتم في الغالب دون سابق إنذار أو إشعار، بل يتعدى الأمر أحيانًا إلى الحجز على المنقولات والممتلكات الخاصة، وهو ما يعتبره كثيرون شكلاً من أشكال الشطط في استعمال السلطة.

فأين تتجه هذه الإدارة؟ ومن منحها هذه السلطة المطلقة التي تُمارَس خارج أي منطق للتدرج أو التفاهم أو حتى للحوار؟ إن ما يحدث اليوم يعكس انزلاقًا خطيرًا نحو دولة جبائية لا تراعي البعد الاجتماعي ولا تحترم مبدأ التناسب في إجراءاتها، ويُهدّد بثني المستثمرين وتفكيك الثقة الهشة التي ما تزال تربط المواطن بإدارة يُفترض أن تحميه لا أن تُطارده.

لقد أصبحت الدولة بارعة في تحصيل الضرائب، لكنها متعثّرة – بل ومتقاعسة أحيانًا – في تقديم الخدمة العمومية، وحسم الملفات الإدارية، وتسوية النزاعات دون اللجوء إلى القضاء.

هذه المفارقة تؤكد أن التحول نحو “دولة الجباية” لم يُرافقه إصلاح حقيقي في آليات الحكامة والمحاسبة والشفافية.

البرلمان يبارك هذا الشطط بصمته المطبق

وما يزيد من تعقيد هذا الوضع أن ممثلي الأمة تحت قبة البرلمان يلتزمون صمتًا مطبقًا أمام ما يجري في المجال الجبائي، وكأن الضغط الضريبي، والحجوزات التعسفية، والشطط الإداري لا تعنيهم. فباستثناء بعض الخرجات المحتشمة، لم يجرؤ أي نائب على فتح هذا الملف الحارق أو المطالبة بتقنين سلطة إدارة الضرائب. ويرجع ذلك، حسب ما يتداوله الشارع، إلى كون أغلب البرلمانيين – إن لم نقل جميعهم – في وضعية جبائية غير سليمة، ما يجعلهم غير مؤهلين أخلاقيًا ولا سياسياً لخوض هذا النقاش، وكأن هناك تواطؤًا صامتًا يَحول دون تحقيق عدالة جبائية حقيقية تعيد الثقة للمواطن وتُخضع الجميع، دون استثناء، لسلطة القانون.

القضاء: الملاذ الأخير في غياب الإدارة الفعّالة

أن يلجأ المواطن أو المستثمر أو الفاعل الاقتصادي إلى القضاء كخيار أول، فهذا يدل على أن الإدارة العمومية فقدت دورها كوسيط لحل النزاعات وأداة لتطبيق القانون بعدل وإنصاف. والنتيجة: آلاف القضايا التي تُستنزَف فيها موارد الدولة، وتُعطَّل بسببها مشاريع، وتُشوَّه صورة المغرب مع الرأي الدولي كمكان جاذب للاستثمار.

الإصلاح الحقيقي يبدأ من داخل الإدارة

إن مواجهة سيل القضايا القضائية لا يكون بمنصات رقمية أو لجان تنسيق فقط، بل عبر إصلاح جذري للعقلية التي تُدبّر الشأن العمومي. إصلاح يعيد الاعتبار للوظيفة العمومية، يُرسّخ مفهوم الخدمة بدل السلطة، ويجعل من احترام القانون ممارسة يومية لا مجرد شعار موسمي.

لقد كشفت هذه الأرقام المهولة عن وجه مظلم لإدارة ما تزال – رغم بعض المحاولات – غير مؤهلة لمواكبة طموحات مغرب جديد يقوده ملك همام يراهن على التنمية والاستثمار والعدالة الاجتماعية.

فهل تعي الدولة أن كسب المعركة أمام القضاء يبدأ بكسب ثقة المواطنين؟ وهل تدرك أن الدولة التي تنهك مواطنيها بالضرائب، وتتقاعس عن تقديم الخدمات، هي دولة تُفقد نفسها شرعيتها يومًا بعد يوم؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى