
برلمانيون مغاربة يرقصون أمام البرلمان بعد خطاب الملك… ما الرسائل الخفية وراء المشهد؟
الرباط: إستثمار
لم يكن مساء افتتاح الدورة التشريعية تحت قبة البرلمان عادياً هذه السنة.
فبعد أيام من الترقب والقلق، عاشها عدد من البرلمانيين على وقع الاحتجاجات الواسعة التي قادتها حركة “جيل زيد”، والتي رفعت سقف المطالب إلى حد الدعوة لرحيل الحكومة ومساءلة النخب السياسية، كانت الأنظار متجهة إلى الخطاب الملكي الذي انتظره الجميع وكأنه لحظة “حسم سياسي” بين الاستمرار أو الحساب.
لكن المفاجأة جاءت مغايرة للتوقعات.
فبدلاً من “مقصلة” سياسية أو توبيخ حاد كما كانت تتخيله بعض الأوساط، حمل خطاب الملك محمد السادس نَفَساً إصلاحياً هادئاً ومتوازناً، ركّز على الدعوة إلى تجديد العقليات، وتحسين أداء المؤسسات، وترسيخ ثقافة النتائج بدل الانفعال اللحظي أو التصعيد اللفظي.
من الخوف إلى النشوة السياسية
بُعيد الخطاب، رصدت عدسات الصحافيين مشاهد غير مألوفة أمام مبنى البرلمان بالرباط: بعض البرلمانيين خرجوا من القاعة وهم يرقصون ويهلّلون بانفعال غريب، وكأنهم تخلّصوا من عبء ثقيل.
المنظر أثار موجة واسعة من الجدل في مواقع التواصل الاجتماعي، بين من اعتبره تعبيراً عفوياً عن الارتياح، ومن رآه دليلاً على انقطاع هؤلاء عن نبض الشارع الذي ما يزال يعيش على وقع الاحتجاجات والمطالب الاجتماعية.
قراءة نقدية في المشهد
في العمق، تكشف هذه الصور مفارقة عميقة بين خطاب ملكي يدعو إلى الجدية والمسؤولية، وبين سلوك بعض ممثلي الأمة الذين تعاملوا مع اللحظة السياسية بخفة لا تليق بمقام المؤسسة التشريعية.
فالملك، في خطابه، لم يمنح صك براءة لأحد، بل وضع تشخيصاً دقيقاً لاختلالات التدبير السياسي والإداري، ودعا إلى تغيير العقليات وترسيخ ثقافة النتائج والالتزام بالعمل الميداني.
وبالتالي، فإن أي ارتياح مفرط أو فرح مبالغ فيه يعكس قراءة سطحية للخطاب الملكي، ويفضح استمرار جزء من النخبة في التعاطي مع السياسة بمنطق الغنيمة لا بمنطق المسؤولية.
سياق سياسي متوتر
تأتي هذه الواقعة في لحظة سياسية دقيقة، حيث تشهد البلاد احتجاجات متصاعدة لحركة “جيل زيد” التي تمثل جيلاً جديداً من الشباب الغاضب من غلاء المعيشة وتراجع الثقة في المؤسسات.
هذه الاحتجاجات هزّت المشهد الحزبي وأربكت الحكومة والبرلمان، وأعادت إلى الأذهان دينامية حركة 20 فبراير، وإن بأساليب ورهانات مختلفة.
في هذا السياق، كان كثير من البرلمانيين يتوقعون أن يحمل الخطاب الملكي نبرة صارمة تجاه الطبقة السياسية، وربما توجيهات مباشرة لمحاسبتها على ضعف الأداء والتواصل.
لكن الملك اختار لغة التوجيه والبناء بدل التأنيب، وهو ما فُهم من قبل البعض — بشكل سطحي — كـ”عفو سياسي غير معلن”.
الملك يدعو إلى إصلاح العقول… لا إلى رقص الأرجل
الرسالة الملكية كانت واضحة:
> الإصلاح لا يُقاس بالفرح اللحظي أو الشعارات، بل بتغيير العقليات وتحقيق نتائج ملموسة في الميدان.
وبالتالي، فإن الرقص أمام البرلمان — في لحظة يفترض أن تكون لحظة تأمل وتقييم — يُظهر انفصال بعض النخب المنتخبة عن حسّ المرحلة وعن الانتظارات الشعبية.
الشارع المغربي، الذي ما زال يعيش غليان حركة “جيل زيد”، كان ينتظر من ممثليه رسائل انضباط ومسؤولية، لا مظاهر ارتياح واحتفال.
ما بعد الخطاب… هل تدرك النخب الرسالة؟
الخطاب الملكي وضع الإطار العام:
لا تناقض بين المشاريع الكبرى والبرامج الاجتماعية.
لا إصلاح بدون تغيير العقليات.
ولا جدوى من العمل العمومي دون نتائج ملموسة.
هذه المبادئ هي بمثابة خارطة طريق جديدة لكل من يريد الاستمرار في المشهد السياسي القادم.
أما من لا يزال يتعامل مع البرلمان كفضاء للامتيازات لا للمحاسبة، فإن الزمن السياسي المقبل قد لا يتسع له مهما كانت لحظات الرقص مؤقتة.
بين “مقصلة التوقعات” و”رقصة الارتياح”، كشف المشهد البرلماني بعد الخطاب الملكي عن هوة مقلقة بين رمزية المؤسسة البرلمانية وثقل المسؤولية الوطنية.
فالملك رسم بوضوح ملامح التحول المطلوب: جدية، محاسبة، وتجديد في العقليات.
أما أولئك الذين اختاروا الفرح بدل العمل، فإنهم نسوا أن الخطاب لم يكن نهاية مرحلة، بل بداية مساءلة جديدة عنوانها: من يرقص اليوم… قد يُحاسب غداً.





