
إرتفاع مبيعات الإسمنت دون أن ينعكس على السكن : لغز الارتفاع الذي لا يُترجم إلى وحدات سكنية
الرباط: إستثمار
يرسم ارتفاع مبيعات الإسمنت في المغرب صورة مُضللة عن واقع القطاع السكني، حيث يكشف التحليل أن هذا النموّ يُغذي أساساً مشاريع البنية التحتية الكبرى على حساب تلبية الاحتياجات السكنية للمواطنين. فبينما تجاوزت المبيعات 10.86 مليون طن بنهاية شتنبر 2025، لم تتجاوز حصة البناء السكني 3% من إجمالي الاستهلاك، مما يبرز فجوة عميقة بين مؤشرات النموّ والواقع المعيشي.
تشير تحليلات الخبراء إلى أن هذه المفارقة تعكس خللاً هيكلياً في نموذج التنمية العمرانية، حيث تتفاقم تكاليف البناء وتتقلص هوامش أرباح المقاولين، مما يدفع المستثمرين نحو مشاريع البنية التحتية المربحة أو السكن الفاخر، ويتجاهل احتياجات السكن الاقتصادي. والنتيجة هي سوق عقاري منقسم يخدم الأغنياء ويهمش الفقراء.
تشير أرقام مبيعات الإسمنت التي قاربت 11 مليون طن بنهاية شتنبر 2025، بارتفاع صاروخي بلغ 10.6%، إلى حركة بناء هائلة في المغرب. إلا أن التحليل العميق يكشف أن هذا الرقم المبهر يحمل في طياته مفارقة مقلقة: فالنموذج التنموي القائم يغذي البنية التحتية والمشاريع الكبرى على حساب الحل الجذري لأزمة السكن، مما يوسع الفجوة بين مؤشرات الواقع المعيش المواطن.
القراءة السطحية تربط تلقائياً بين ازدهار مبيعات الإسمنت وطفرة في القطاع السكني. لكن شهادة المحللين الاقتصاديين، كما تظهر في المقال، تقوض هذه الفرضية تماماً. الدليل الأكبر هو تحليل توزيع الاستهلاك نفسه، حيث نجد أن حصة “البناء” المباشر لا تتعدى 311 ألف طن، وهي نسبة هامشية (أقل من 3%) مقارنة بحصة “البنية التحتية” و”الخرسانة الجاهزة” الموجهة للمشاريع الضخمة. هذا يعني أن قلب النشاط الإسمنتي ينبض في ورشات الدولة والاستثمارات الكبرى، بينما ينزف القطاع السكني الخاص.
هنا تبرز المعضلة الحقيقية: فبينما تبنى الدولة طرقاً ومستشفيات وموانئ – وهي مشاريع ضرورة بلا شك – فإن الآلية السوقية لعرض السكن تعاني من اختناقات هيكلية. المحلل إدريس الفينة يسلط الضوء على جوهر الأزمة: تضخم تكاليف المدخلات من أرض ومواد بناء وطاقة وأجور، بينما هوامش أرباح المنعشين العقاريين تتقلص إلى حدود 5%. هذه المعادلة المستحيلة تدفع بالمستثمرين إلى الهروب من القطاع أو إلى التركيز حصرياً على السكن الفاخر والوسط-العالي، حيث يكون هامش الربح مضموناً. النتيجة هي وفرة في السكن لا يستطيع غالبية المغاربة الوصول إليه، وهو ما يؤكده المحلل عبد الخالق التهامي بالإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من البناء موجه للاستثمار أو للمغاربة المقيمين بالخارج، وليس لتلبية حاجة السكنى الأساسية للمواطن المحلي.
الخلاصة القاسية هي أن سياسة “الصبيب” الحالية، رغم إنجازاتها في البنى التحتية، فشلت في خلق دينامية سوق سكنية حقيقية وعادلة. الدولة، كما يذكر الفينة، تساهم في المشكلة عبر الهيكل الضريبي المرتفع الذي يثقل كاهل القطاع. والنتيجة هي اقتصاد ذو سرعين: speed économique à deux vitesses: قطاع عمومي واستثماري قوي يرفع الأرقام الإجمالية، وقطاع سكني خاص يئن تحت وطأة التكاليف ويخدم فقط شريحة مجتمعية محدودة.
بعبارة أخرى، الارتفاع القياسي لمبيعات الإسمنت هو أقرب إلى “مؤشر وهمي” لإنعاش السكن. إنه يعكس أولوية النموذج القائم على “المشاريع الكبرى” vis-à-vis de la priorité du “logement pour tous”. ما لم يتم معالجة المعضلة الهيكلية لقطاع السكن – من خلال تبسيط المساطر، ومراجعة سياسة الأراضي، وتشجيع الاستثمار في السكن الاقتصادي والاجتماعي – فسيستمر المغرب في تسجيل أرقام قياسية في مبيعات الإسمنت، بينما تتعمق أزمة السكن في واقع المواطنين.





