المهندس المغربي… العمود الفقري لمغرب 2030 بين طموح النهوض وواقع التهميش

الرباط: إدريس بنمسعود

منذ فجر التاريخ، كانت الهندسة مرادفةً للتقدم والحضارة، ومحرّكاً أساسياً لكل نهضة بشرية. فالأمم التي أرادت أن تخرج من عباءة التخلف إلى فضاءات الإبداع والتنمية، كانت الهندسة دائماً بوصلتها ومحرّكها الداخلي. واليوم، في زمن التحولات المتسارعة التي يعيشها العالم، لم يعد المهندس مجرد تقني ينجز التصاميم أو يشرف على الورشات، بل أصبح فاعلاً استراتيجياً في صياغة القرار التنموي وصناعة مستقبل الأوطان.

وفي المغرب تتقاطع هذه الحقيقة مع لحظة مفصلية يعيشها البلد في سعيه الحثيث نحو موقع متقدم ضمن الدول الصاعدة.

ذلك أن رهانات “مغرب 2030” لا يمكن تحقيقها إلا بعقول هندسية مبدعة تمتلك الرؤية والابتكار والقدرة على التكيّف مع التحديات. فالهندسة ليست مهنة تقنية فحسب، بل ممارسة فكرية ووطنية تتقاطع مع مفاهيم السيادة والاستقلال الاقتصادي. ففي عالمٍ تتحكم فيه التكنولوجيا والمعرفة، باتت السيادة الهندسية مرادفاً للسيادة الوطنية، إذ لا يمكن الحديث عن استقلال القرار الاقتصادي دون امتلاك الكفاءة التقنية والقدرة على الابتكار المحلي.

ومن هنا فإن الدفاع عن “الهندسة الوطنية” هو في جوهره دفاع عن أمن المغرب التكنولوجي والمعرفي، وعن قدرته على إنتاج الحلول بدل استيرادها.

ومن مشاريع الطاقات المتجددة إلى تشييد السدود وتوسيع شبكة السكك الحديدية والطرق السيارة، ومن التحول الرقمي إلى المدن الذكية، يبرز المهندس المغربي كفاعل مركزي في كل هذه الأوراش الكبرى التي تشهدها المملكة. هذه الدينامية تؤكد أن المغرب يملك رأسمالاً هندسياً واعداً، لكن هذا الرأسمال ما يزال في حاجة إلى إطار مؤسساتي صلب يضمن له التقدير والتحفيز والمواكبة، ويُعيد للهندسة مكانتها الحقيقية في سلم أولويات التنمية الوطنية.

وفي هذا السياق، تبرز جمعية مهندسي العدالة والتنمية كتجربة نوعية تحاول الربط بين الكفاءة التقنية والوعي الوطني. فالجمعية تسعى إلى جعل المهندس المغربي ليس فقط بنّاءً للمشاريع، بل مواطناً فاعلاً في الإصلاح والتنمية، منسجماً مع قيم الإخلاص والمسؤولية والإبداع. وهي بذلك تجسد رؤية الحزب في جعل التأطير والتكوين والمشاركة في الشأن العام مدخلاً لبناء وعي هندسي ملتزم بقضايا الوطن والمجتمع، وفق ما نص عليه الدستور من واجب الأحزاب في تأطير المواطنات والمواطنين وتعزيز انخراطهم في الشأن العام.

ورغم الحضور البارز للمهندس المغربي في مختلف القطاعات، إلا أن واقعه المهني لا يعكس حجم عطائه ولا وزنه في مسار التنمية. فثمة تراجع في جودة التكوين الهندسي، وغياب لإطار قانوني مهني جامع، فضلاً عن هشاشة الأوضاع في القطاعين العام والخاص. ومن هنا، تتجدد المطالبة بإحداث هيئة وطنية للمهندسين المغاربة تكون مرجعية مهنية وقانونية توحّد الصوت وتدافع عن الكرامة وتضمن الممارسة السليمة للمهنة.

كما يدعو المهندسون إلى فتح حوار مؤسساتي جاد ومسؤول مع الحكومة من أجل معالجة القضايا المطروحة، وعلى رأسها مشروع المرسوم الجديد الخاص بالنظام الأساسي لهئية المهندسين والمهندسين المعماريين، محذرين من الانزلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تنتج عن طول الانتظار وتراكم الاحتقان داخل صفوف المهندسين في مختلف القطاعات.

فالإصلاح لم يعد ترفاً ولا يمكن تأجيله، لأن الإحباط الذي يشعر به عدد من المهندسين بات يهدد بتقويض الثقة في الدولة والمؤسسات. والمهندسون اليوم لا يطالبون فقط بتحسين الأجور أو ظروف العمل، بل بحقهم في التقدير والتمكين والاعتراف بدورهم الحيوي في كل ما يُنجز على أرض الواقع.

إن الرهان على المهندس المغربي ليس خياراً تقنياً بل خيار وطني واستراتيجي لمستقبل البلاد. فالمهندس هو من يخطط ويبتكر، ويبني، ويؤطر التنمية بمفهومها الشامل. والاستثمار في تكوينه وتحفيزه وتمكينه من الإبداع هو استثمار مباشر في كرامة الوطن وازدهاره.

ولذلك فإن المؤتمر الوطني الثالث لجمعية مهندسي العدالة والتنمية لم يكن مجرد لقاء تنظيمي، بل محطة وعي جماعي بضرورة إعادة الاعتبار للهندسة الوطنية، وصياغة رؤية جديدة تضع المهندس في قلب المشروع التنموي المغربي. فمستقبل المغرب لن يُبنى بالحجارة وحدها، بل بالعقول الحرة، والإرادات المبدعة، والمهندسين المؤمنين بأن النهضة مشروع وطني قبل أن تكون معادلة تقنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى