
زلزال المحاسبة: لماذا يسقط 20% فقط من المنتخبين بينما ينجو 80% من كبار المسؤولين بلا مساءلة؟
الرباط: إستثمار
تشهد الساحة السياسية والإدارية بالمغرب توتراً متصاعداً بعد تسريب معطيات حول دفعة جديدة من قرارات التوقيف والعزل ستستهدف رؤساء أزيد من 11 جماعة ونوابهم ومستشارين، استناداً إلى تقارير مفتشية الداخلية، خلال ما تبقى من السنة الجارية. هذه التطورات تعيد طرح سؤال جوهري أكثر عمقاً: لماذا تظل المحاسبة محصورة في دائرة المنتخبين، الذين لا يمثلون سوى 20% من مراكز القرار المحلي، بينما يظل نحو 80% من المسؤولين العموميين—من مدراء مؤسسات عمومية ومصالح خارجية وهيئات تدبير—بعيدين عن أي رقابة مباشرة أو محاسبة فعلية؟
تركيز المحاسبة على المنتخبين: صرامة انتقائية؟
تشير المعطيات إلى أن عدة مجالس جماعية تلقت خلال الأسابيع الماضية أكثر من 40 استفساراً موجهاً لرؤسائها، تتعلق باختلالات تدبير الصفقات العمومية، وتسيير النفقات، وتحصيل المداخيل الجبائية، إلى جانب خروقات في ميدان التعمير. هذه الأسئلة الدقيقة تُبيّن وجود مساءلة صارمة تجاه المنتخبين، تستند إلى تقارير المفتشية العامة للإدارة الترابية والمجلس الأعلى للحسابات.
ومع أن هذه الخطوة تُعدّ ضرورية لضبط الحكامة، إلا أنها تبدو مركزة حصرياً على رؤساء الجماعات ونوابهم، رغم أن الجماعات تُسيَّر فعلياً—في كثير من الحالات—بهيمنة أجهزة تقنية وإدارية تشكل 80% من منظومة التدبير الترابي، والتي لا تخضع بالقدر نفسه من الشفافية أو المتابعة القضائية.
ملفات وُجّهت للقضاء… وملفات أكبر خارج الرادار
أفادت المصادر أن عدداً من المنتخبين المعزولين أخيراً ستُحال ملفاتهم إلى محاكم جرائم الأموال، بسبب شبهات تبديد المال العام والتزوير و”الغدر الضريبي”. وقد لجأ بعضهم إلى تفويت ممتلكاتهم لأقاربهم تحسباً للحجز.
غير أن المقارنة تكشف مفارقة صارخة:
رغم تورط بعض المديريات والمؤسسات العمومية في اختلالات مالية أو إدارية جسيمة—وفق تقارير سابقة—فإن قليلاً جداً من المسؤولين الإداريين تمت متابعتهم أو عزلهم، رغم أنهم يمسكون بزمام القرارات اليومية، من التأشير على الصفقات إلى تنفيذ الميزانيات.
هل الخلل في القوانين أم في إرادة التفعيل؟
تفعيل مسطرة العزل ضد المنتخبين بات اليوم بقرار قضائي وفق القانون التنظيمي 113.14، بعدما لم تعد سلطة الوصاية تمتلك صلاحية العزل المباشر. غير أن المساطر المتعلقة بمحاسبة كبار المسؤولين لا تزال معقدة وبطيئة، ولا ترقى إلى مستوى “ربط المسؤولية بالمحاسبة” كما نص عليه الدستور.
تقارير سوداء… لكنها تمس طرفاً واحداً
التقارير التي أعدتها المفتشية العامة للإدارة الترابية حول منح تراخيص التجزئات والتقسيم والبناء أسقطت عدداً من المنتخبين البارزين، بعضهم كان يتمتع بعلاقات واسعة مع رجال سلطة ومصالح داخل المديرية العامة للجماعات المحلية. لكن السؤال الذي يطرحه الخبراء:
هل تُكشف كل حلقات هذه الشبكات؟ أم أن التحقيقات تتوقف عند مستوى المنتخب، وتتجنب الغوص في بقية أطراف منظومة الفساد؟
80 في المائة من المسؤولين خارج دائرة الضوء
التركيز الإعلامي والإداري على المنتخبين يعطي الانطباع بأنهم المصدر الوحيد للاختلالات. لكن الحقيقة أن البنية الترابية والمالية للجماعات تعتمد أساساً على:
المديرين العامين للمصالح
رؤساء الأقسام والمصالح التقنية
مديري المؤسسات العمومية المحلية
شركات التنمية المحلية
المصالح الخارجية للوزارات
إضافة إلى المواكبة والمراقبة للسلطة الوصية
وكل هؤلاء يملكون سلطات حقيقية، وقراراتهم تؤثر بشكل مباشر في التعمير، الصفقات، التدبير المالي، ورخص البناء… ومع ذلك نادراً ما تطالهم لجان التفتيش أو المتابعة القضائية.
النتيجة: مساءلة غير متوازنة تهدد الثقة في المؤسسات
هذا “الاختلال في منطق المحاسبة” يعمّق الفجوة بين المواطنين والمؤسسات، ويجعل الكثيرين يتساءلون:
هل نحن أمام محاربة فعلية للفساد، أم مجرد معالجة انتقائية تطال طرفاً دون آخر؟
إلى ذلك تبقى الخطوات التي تقودها وزارة الداخلية ضرورية ومهمة في مسار تخليق الحياة العامة. لكن لكي تكون فعّالة، يجب أن تشمل كامل البنية التدبيرية، لا فقط المنتخبين الذين لا يمثلون سوى 20% من مراكز القرار.
فربط المسؤولية بالمحاسبة لا يكتمل إلا عندما تشمل الرقابة كل من يمارس السلطة العمومية، كيفما كانت صفته أومركزه.





