الاعتقالات السياسية وتصدع المعارضة: اختبار للديمقراطية التركية

الرباط: إستثمار الدولي

شكلت عملية القبض على أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى والمرشح الرئاسي المتوقع لحزبه، ضربة قاصمة للمعارضة التركية. لم يكن إمام أوغلو مجرد رئيس بلدية، بل كان قائد التيار التغييري داخل حزب الشعب الجمهوري ومهندس فوز أوزال بقيادة الحزب. امتدت هذه الضربات لتشمل توقيف عدد من السياسيين ورجال الأعمال والشخصيات المنتمية أو المقربة من الحزب، بما في ذلك رؤساء بلديات أحياء في إسطنبول، وسط اتهامات بالفساد.

وتعكس هذه الأزمة عمق الخلافات الداخلية التي تمزق الحزب، والتي تجلت بشكل صارخ في انضمام عدد من رؤساء بلدياته إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال احتفاله بذكرى تأسيسه، وكانت أبرز هذه الانقلابات انتقال رئيسة بلدية آيدن منذ عام 2009، أوزلام تشرشي أوغلو، مما أثار جدلاً واسعاً.

ورغم أن ظاهرة تنقل الشخصيات السياسية بين الأحزاب، وخاصة نحو الأقوى، ليست جديدة في المشهد التركي، إلا أنها اكتسبت هذه المرة بُعداً مختلفاً مرتبطاً بأزمات حزب الشعب الجمهوري وتهم الفساد التي تطاله. وبغض النظر عن مدى مصداقية هذه الاتهامات التي تنتظر حكم القضاء النهائي، فإن تأثيرها كان مدمراً للحزب، حيث دفعه إلى دوامة من الشكوك والدفاع عن النفس، مما فاقم من انقساماته الداخلية في لحظة بالغة الحساسية على المستويين المحلي والدولي للبلاد.

وبنتيجة ذلك، تحول التركيز الإعلامي والسياسي من مناقشة أداء حزب العدالة والتنمية خلال 23 عاماً في الحكم وتقييم مستقبله، إلى تسليط الضوء على أزمات حزب المعارضة الرئيسي. وإن كان ضعف المعارضة وتشرذمها قد شكّل عاملاً مساعداً لاستمرار حزب العدالة والتنمية في السلطة حتى اليوم، إلا أن هذا الضعف يمثل في حقيقته عنفاً للمؤسسة الدولة ذاتها. فالمعارضة القوية القادرة على تقديم بديل حقيقي هي ركيزة أساسية لأي ديمقراطية، فهي تدفع الحزب الحاكم إلى العمل الجاد وتمنع تراجعه، وتشكل رقابة فعالة على أدائه، وتوفر خياراً واضحاً للناخب.

على النقيض من ذلك، يؤدي ضعف المعارضة إلى إضعاف الحافز لدى الحزب الحاكم، ويقلل من شعوره بتهديد المنافسة، مما يساهم في تراجع آليات الرقابة والنقد والتطوير داخله، وينعكس سلباً على الإنجاز العام. يبدو أن حزب الشعب الجمهوري منشغل اليوم بمعاركه الداخلية وأزماته القضائية أكثر من منافسة حزب العدالة والتنمية ورئيسه على الساحة السياسية. أما الأحزاب الإسلامية والمحافظة الأخرى، فهي تدرك أن فرصها تظل محدودة طالما بقي الرئيس أردوغان قطباً بارزاً في السياسة التركية، وأن دورها يقتصر على ترسيخ وجودها استعداداً لمرحلة ما بعد أردوغان، مما يترك الحزب الحاكم خياراً شبه وحيد لجزء كبير من الناخبين.

في الختام، رغم هذا المشهد، لا ينبغي لحزب العدالة والتنمية أن يطمئن إلى الوضع الراهن أو يراهن على استمرار ضعف خصومه. لقد أظهرت السياسة التركية تقلباتها العنيفة عبر التاريخ، كما أكد الناخب التركي مراراً قدرته على إيصال رسائل احتجاجية قاسية عبر صناديق الاقتراع عندما يشعر بالإهمال. لذلك، فإن الطريق الأكثر أماناً واستقراراً للحزب الحاكم هو أن يبدأ بعملية مراجعة وتقييم شاملة ودقيقة لذاته، استعداداً لأي تحول محتمل، وانتظاراً ليوم تنضج فيه الحياة السياسية في تركيا لتشهد توازناً صحياً بين حاكم قوي ومعارضة فاعلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى