
الإشهار بين رهان السيادة الرقمية وضبط الخطاب العمومي: مناظرة وطنية تؤسس لرؤية جديدة للإعلام المغربي
الرباط: إدريس بنمسعود
شكلت المناظرة الوطنية الأولى حول الإشهار، المنظمة بالدار البيضاء تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، لحظة مفصلية في مسار التفكير الاستراتيجي حول مستقبل الإشهار بالمغرب، ليس فقط كمجال اقتصادي إبداعي، بل كأداة سيادية في بناء منظومة إعلامية وطنية متوازنة وشفافة.
فمن جهة ركّز وزير الشباب والثقافة والتواصل، محمد مهدي بنسعيد، على البعد الاقتصادي والسيادي للإشهار، باعتباره مورداً رئيسياً لتمويل وسائل الإعلام، ورافعة لتشغيل الشباب وتطوير الصناعات الثقافية والإبداعية، التي أصبحت تمثل 2.7٪ من الناتج الداخلي الخام وتشغّل أكثر من 140 ألف شخص. رؤية الوزير تضع الإشهار في قلب “السيادة الرقمية” للمغرب، أي في معركة الاستقلال الإعلامي والاقتصادي عن المنصات الأجنبية، بما يعزز حضور المنتج والمبدع المغربي في الفضاء الرقمي العالمي.
لكن، في المقابل جاءت مداخلة رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، لطيفة أخرباش، لتوازن هذا الطرح الاقتصادي، بتسليط الضوء على البعد الأخلاقي والاجتماعي للإشهار. فبالنسبة لها، لا يمكن النظر إلى الإشهار فقط بمنظار السوق أو العائد المالي، لأنه في جوهره “خطاب موجه إلى المواطن”، يصنع التمثلات الاجتماعية ويكرّس القيم والمعايير السائدة. ومن ثمة، يصبح التقنين الأخلاقي ضرورة لحماية المستهلك والمجال العمومي من الانزلاق نحو التلاعب بالصورة والوعي.
ويبرز هنا التباين الإيجابي بين مقاربة بنسعيد البراغماتية، التي تسعى إلى جعل الإشهار محركاً للاقتصاد الثقافي، ومقاربة أخرباش القيمية التي تنبه إلى ضرورة حماية نزاهة الخطاب الإعلامي، واحترام الفصل بين المحتوى التحريري والمضمون الإشهاري، باعتباره ركيزة من ركائز المصداقية الصحفية.
هذا التلاقي بين البعدين الاقتصادي والأخلاقي، يجعل من المناظرة الوطنية حول الإشهار مختبراً أولياً لتجديد التفكير في العلاقة بين السوق والقيم، بين الإبداع والرقابة، وبين حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية. وهو ما يتماشى مع التوجيهات الملكية الداعية إلى بناء نموذج ثقافي وإعلامي مغربي متوازن، قادر على الانخراط في التحولات الرقمية العالمية دون التفريط في الخصوصية الوطنية.
ومع اختتام أشغال المناظرة بصياغة توصيات تروم وضع خارطة طريق وطنية لتطوير القطاع، يبدو واضحاً أن المغرب يتجه نحو بلورة “عقد جديد” بين الفاعلين العموميين والخواص في مجال الإشهار، يقوم على ثلاث ركائز: الشفافية، والتنافسية، والسيادة. وهي معادلة صعبة لكنها ضرورية لتأهيل الإشهار ليصبح رافعة حقيقية للاقتصاد الإبداعي، وجزءاً من القوة الناعمة للمملكة في زمن الرقمنة الشاملة.





