الداخلية تتدخل لإنقاذ مشاريع تنموية: مواجهة المحسوبية والعبث بالمال العام في الجماعات الترابية”

الرباط: نارمان بنمسعود

يبدو أن وزارة الداخلية قد قررت وضع حدٍّ لمرحلة التراخي والارتباك التي طبعت أداء عدد من الجماعات الترابية، بعد أن تزايدت الشكايات والتظلمات من مواطنين وجمعيات حول سوء التدبير، وتفشي المحسوبية في توزيع الدعم العمومي. فقرار المديرية العامة للجماعات الترابية بإيفاد لجان إقليمية لمواكبة الجماعات “المتعسرة” ليس إجراءً إدارياً روتينياً بقدر ما هو مؤشر على أزمة حوكمة حقيقية تنخر جسد التدبير المحلي في عدد من المناطق.

التحرك المفاجئ يعكس إدراكاً متنامياً داخل وزارة الداخلية بأن الاختلالات المالية والتدبيرية لم تعد تُحتمل، خصوصاً في ظل تعثر مشاريع تنموية أساسية تمس الحياة اليومية للمواطنين، من تزويد بالماء الصالح للشرب إلى تحسين الخدمات الصحية في المناطق الهشة. فبينما تُرفع الشعارات حول العدالة المجالية والتنمية المستدامة، لا تزال قرى وجماعات تعيش عزلة مائية وصحية بسبب ضعف الكفاءة وسوء التخطيط، مما جعل الوزارة تتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

غير أن البعد النقدي في هذه الخطوة يكمن في السؤال الجوهري: هل يمكن إصلاح الاختلالات من داخل نفس المنظومة التي أنتجتها؟ فالداخلية وإن كانت تمارس وصايتها القانونية، إلا أن مسؤولية الفشل لا تقع فقط على المنتخبين المحليين، بل تمتد إلى غياب آليات مراقبة ناجعة ومحاسبة فعلية خلال السنوات الماضية. فتركيز القرار الجديد على سحب صلاحيات توزيع الدعم من المجالس المنتخبة لصالح الولاة والعمال، وإن بدا حلاً فورياً للحد من استغلال المال العام لأغراض انتخابية، إلا أنه يطرح مخاوف من عودة المركزية في تدبير الشأن المحلي، بما قد يُضعف مبدأ الديمقراطية التشاركية الذي تقوم عليه الجهوية المتقدمة.

التقارير تشير إلى أن بعض الجماعات حولت ميزانياتها إلى “صناديق إنفاق مغلقة”، تُوجَّه فيها الأموال إلى جمعيات محسوبة سياسياً أو إلى مصاريف غير مبررة مثل الهواتف والتنقلات والتعويضات، في وقت تتعثر فيه المشاريع الحيوية. هذا الواقع يضعف ثقة المواطن في المؤسسات المنتخبة، ويحوّل شعار “القرب من المواطن” إلى مجرد واجهة شكلية تخفي هشاشة تدبيرية عميقة.

ما تقوم به وزارة الداخلية اليوم هو محاولة لإعادة الانضباط المالي وتطهير المشهد المحلي، غير أن ذلك لن يتحقق بإجراءات ظرفية أو لجان مراقبة مؤقتة، بل يحتاج إلى إعادة تعريف لمفهوم التنمية المحلية نفسه، بحيث تُبنى على الشفافية والمساءلة والنجاعة في الإنفاق. فالمعركة الحقيقية ليست فقط ضد التعثر المالي، بل ضد ثقافة سياسية ترسخ الزبونية وتفرغ العمل الجماعي من مضمونه التنموي.

في النهاية، يمكن القول إن تحرك الداخلية ليس مجرد تصحيح مسار إداري، بل هو إنذار سياسي مبكر للجماعات الترابية بأن زمن العبث بالمال العام قد انتهى، وأن التنمية المحلية لم تعد تحتمل مزيداً من الارتجال والولاءات، بل تحتاج إلى رؤية تدبيرية تربط المسؤولية بالمحاسبة، وتضع مصلحة المواطن فوق الحسابات الضيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى